الراعي الحكيم

لطرح ومناقشة كافة المواضيع الثقافية
أضف رد جديد
ashor
مشرف عام
مشاركات: 4162
اشترك في: الجمعة سبتمبر 17, 2004 7:55 pm
مكان: syria

الراعي الحكيم

مشاركة بواسطة ashor » الأحد يوليو 04, 2010 11:06 pm

+++

قصة قصيرة .. الراعي الحكيم
بقلم : أحمد حسين العلي

عند غروب شمس أحد الأيام الغابرة احتشد لفيف من الناس في الساحة التي يطل عليها قصر الملك لرؤية قطع رأس أحد المدانين بعمل أغضب ملك البلاد الذي كان من عادته حضور مراسم الإعدام من شرفة قصره المواجهة لمنصة الإعدام ، كان الناس هذه المرة يعرفون الرجل الذي حكم عليه بالموت و كان الألم يعتصر شغافهم حزناً على هذا الرجل الذي عرف عنه الأمانة ، و الصدق ،

و حسن الخلق إلا أنهم لم يجهروا بأحاسيسهم خوفاً من بطش قائد العسس و ظلمه .. فالرجل لم يكن إلا راعياً يملك بعض الخراف التي يقوم برعيها لتدر له ما يسد رمقه و يعينه على ضنك العيش ، ولم يكن له من ذنب سوى أنه رفض أمر قائد العسس الجشع الذي حاول الاستيلاء على خرافه دون وجه حق الأمر الذي أغضب ذلك الجشع فهدد و توعد و ذهب من فوره إلى الأمير وأوغل صدره على ذلك الراعي المسكين ، حيث ادعى أن الراعي هو من المخربين الذين يحاولون الاستيلاء على العرش و أنه يحيك مؤامرة دنيئة لإسقاط الملك !! و لما كان الملك يظن أن قائد عسسه هو من الموالين له، كما كان يظن أنه أهل لثقته ، لذا فقد أصدر أمراً بقطع رأس ذلك المتمرد. خفت صوت الناس و هدأت همساتهم في حين بدأت تتعالى خشخشة السلاسل و صليل القيود التي أدمت أيدي و أرجل الراعي البائس ..‏

كانت قرقعة نعال العسس المدججين بالسلاح تشق صمت المكان و هم يقتادون الراعي إلى حتفه ..‏

و كادت أفئدة الناس تفر من صدورهم إشفاقاً على هذا الرجل الذي لم يعد يفصله عن الهلاك سوى درجات السلم التي كان يصعد فوقها بكل ثقة و سعادة و كأنه سيزف إلى إحدى حور العين و ليس إلى سيف الجلاد !! و الأغرب من ذلك أن الرجل كان يضحك بشغف و الفرح يكلل مهجته الأمر الذي أثار استغراب الملك الذي كان يراقب الموقف و الحيرة تملأ فؤاده . وقف الراعي وسط المنصة‏

و السلاسل الحديدية الثقيلة تحيط بجسده النحيل ، و بعد برهة صعد الجلاد فوق المنصة ..و كان هذا الجلاد رجلاً ضخم الجسم، حاد النظرات، يرتدي ملابس سوداء، و يضع على رأسه قناعاً لا يظهر منه سوى عينان ينبعث منهما شررٌ يجعل القلوب تصعد إلى الحناجر !!‏

دنا الجلاد من الراعي و لكزه بقوة و جعله يجثو على ركبتيه ثم وضع النطع تحت رأس الراعي وبعد ذلك استل سيفه المخيف و التفت إلى الملك منتظراً أمره بتنفيذ حكم الإعدام..عندها تعالت ضحكة الراعي المظلوم و أشاح بوجهه إلى الشرفة التي يجلس فيها الملك وخاطبه قائلاً:‏

(( إن الذي أنقذني من انتقام الجمل قادر على أن ينجيني من مرارة الظلم يا مولاي !! .))‏

حينذاك وقف الملك على قدميه مستغرباً.. و نظر بحيرة إلى ذلك الراعي الذي لم تستطع رهبة الموت من أن تقلل من عزيمته كما لم يستطع سيف الجلاد أن يفت من عضده و أدرك أن وراء الأكمة ما ورائها !! و أن تصميم هذا الراعي و عدم اكتراثه بالموت يخفيان سراً غامضاً ، فدفعه فضوله لمعرفة حكاية الجمل ثم أمر حراسه بأن يحضروا الرجل ليمثل بين يديه ، تسارعت خطوات الحراس نحو المنصة ثم اقتادوا الرجل الذي أرهقته الأصفاد إلى الملك وسط ذهول الحاضرين و دهشتهم !!‏

وقف الراعي وسط قاعة العرش محاطاً بحرس الملك و حاشيته ثم نظر إلى الملك الذي كان يرفل بثياب فاخرة التصميم .. بديعة التطريز.. وكانت عمامته الكبيرة مزركشة بأغلى أنواع الأحجار الكريمة .. و كان يستوي على عرش عاجي مزين بنقوش ساحرة من الذهب و الفضة ..‏

أحس الراعي بأنه يعيش حلماً مخملياً من الأحلام التي طالما راودته حين كان يكابد مشقة الرعي تحت الشمس الحارقة، لكنه استفاق فجأة من شروده حين تقدم الملك نحوه و نظر إليه بتمعن ثم سأله:‏

(( من الذي يستطيع أن يخلصك من قدرك الذي ساقك إلى حتفك ؟؟ ))‏

آنذاك.. شعر الراعي أن الأقدار قد ساقت له فرصة لا تعوض للنجاة بحياته.. فالتفت إلى الملك‏

و أجابه بكل إيمان و ثقة بالله:‏

((إن الله قادرٌ على ما لا تقدر عليه يا مولاي،و لو أذنت لي فسوف أقص عليك حكايتي مع الجمل . ))‏

شعر الملك أن هذا الرجل يمتلك فراسة قوية أتاحت له معرفة ما يجول بخاطره، فأخذ يذرع قاعة العرش جيئة و ذهاباً واضعاً يديه خلف ظهره ثم جلس على عرشه ونظر إلى الراعي الذي كان لا يزال يرزح تحت ثقل أصفاده ثم أمره بأن يقص على أسماعه مغامرته مع ذلك الجمل.‏

أدرك الراعي بحنكته أن حياته قد أصبحت على المحك فتقدم قليلاً من الملك و بدأ يسرد عليه قصته قائلاً:‏

(( يا ملك الزمان، لقد كنت ذات يوم وجيهاً في قومي ، أعيش بمنزل كبير تطل شرفته على حديقة غناء تضم أصناف الورود و الرياحين و الأشجار المثمرة.. و كان لي زوجة جميلة أنجبت لي طفلاً حباه الله بجمال ملائكي ندر وجوده بين أترابه من الأطفال .. ،كنا نمضي الليالي بسعادة غامرة‏

و عامرة بشكر الله الذي أنعم علينا بالخير و بحبوحة العيش، في ليلة حالكة الظلمة.. عاتية الرياح شب حريق هائل و أتى على كل ما بالمنزل و أحاله كومة من الرماد، و الطامة الكبرى أني فقدت زوجتي وولدي بذلك الحريق المشئوم ...))‏

تنهد الراعي و ذرفت عيناه دموع الحسرة و الأسى ثم نظر إلى الملك الذي كان ينصت إليه بكل جوارحه و كان متشوقاً لمعرفة باقي القصة فطلب من الراعي أن يكمل حكايته الحزينة بعد أن أمر الحرس بأن يفكوا وثاق الرجل.‏

شعر الراعي بفرح غامر ثم أكمل حكايته قائلاً:‏

((.. و بعد أن فقدت كل شيء –إلا إيماني بالله- قررت مغادرة ذلك البلد وخرجت لا ألو على شيء، ثم امتطيت ظهر أحد الجمال ولكزته بعصاي كي يقف على رجليه لكنه بقي رابضاً دون حراك !! فرحت أصب عليه جام غضبي وصرت أضربه بعصاي ضرباً مبرحاً و كأني كنت أضرب حظي العاثر، فما كان من الجمل إلا أن مد عنقه الطويل نحوي و نظر إلي نظرة ارتعدت لها فرائصي خوفاً، ثم قام وسار بي عبر الفيافي و الوديان .‏

لا أدري كم مضى من الوقت قبل أن أدرك أني لم أنم منذ فترة طويلة و أني أمضيت فترة طويلة مرتحلاً ، فأنخت الجمل وقررت أن أنال قسطاً من الراحة ، لكني تذكرت نظرة الجمل في بداية رحلتي فابتعدت قليلاً إلى مكان لا يراني فيه الجمل و وضعت عباءتي فوق جذع نخلة مقطوع،‏

و شكلتها على هيئة شخص نائم، ثم اختبأت خلف صخرة مجاورة لأرى ما سيفعله الجمل !! و بعد لحظات ظهر الجمل و اقترب بهدوء من العباءة ، ثم نظر حوله ليرى إن كان هناك من يراقبه، و لما اطمئن إلى خلو المكان أخذ يرفس العباءة برجليه رفساً عنيفاً، وراح ينهشها بأسنانه الحادة فيمزقها إرباً و كل ظنه أني أرقد تحتها !! عند ذلك أصابني رعب شديد فخرجت من خلف الصخرة و أطلقت ساقاي للريح هرباً من انتقام هذا الجمل، إلا أنه لمحني وأخذ يعدو خلفي بأقصى سرعته، وكان يقترب مني مع كل خطوة من خفيه، و كنت أحس بدنو منيتي مع كل قفزة أقفزها في بطن الوادي إلى أن لمحت مغارة ضيقة.. فحشرت جسمي داخلها و زحفت مبتعداً عن فتحتها و لكني لم أستطع الدخول أكثر لأن المغارة لم تكن عميقة جداً، فأسندت ظهري على جدارها الداخلي و انتظرت ما ستسوقه لي الأقدار.. فجأة أطل الجمل من باب المغارة و راح يدخل عنقه فيها محاولاً الوصول إلي، استمات الجمل في محاولاته للنيل مني حتى لامست شفتاه الغليظتين جلد بطني لكن جسمه الضخم حال دون تقدمه أكثر مما منع أسنانه الحادة من تمزيقي، و كانت شفتاه تدغدغان بطني كلما حركهما فينتابني نوبة من الضحك على الرغم من خطورة الموقف الذي كنت فيه ،و كنت - و أنا تحت سيف الجلاد- أتذكر ذلك الموقف فينتابني الضحك ..‏

ثم استدرك الراعي قائلاً: و بينما كنت أتضرع إلى الله كي يخلصني من هذا الموقف و إذ بأفعى ضخمة تنسل من أحد الجحور الموجودة في المغارة، ثم زحفت تلك الأفعى المخيفة باتجاه رأس الجمل و عضته عضة قاتلة ولشدة ألمه فغر فمه الكبير فدخلت الأفعى إلى جوف الجمل!! عند ذلك أطبق فمه عليها و الألم ينهش أحشائه، فمات الجمل من تأثير السم القاتل و بقيت الأفعى تتلوى داخل جسمه، كانت كل هذه الأحداث تجري أمامي و أنا أبتهل إلى الله و أرجوه بأن يخلصني من هذين الوحشين المفترسين.. ثم أدركت أن الله قد استجاب لدعائي و أمد بعمري لغاية يعلمها هو وحده . ))‏

عجب الملك أشد العجب لحال هذا الرجل و أشفق عليه لما ألم به من صروف الدهر و تقلبات الزمان، و أيقن بأن من يتحلى بمثل هذه الصفات الحميدة لا يمكن أن يخون بلده أو أن يتآمر على ملكه، و زاد من يقينه بذلك ما سمعه من الراعي عما كان من شأنه مع قائد العسس، فأمر بإحضاره في الحال وأمر الجلاد بان يضرب عنقه بدلاً من الراعي المظلوم ، فما كان من الراعي الطيب إلا أن توسل الملك بأن يعفو عن قائد العسس و أن يكتفي بعزله و نفيه خارج البلاد، فاستجاب الملك لطلب الراعي، و حين رأى ما لديه من حكمة و رجاحة عقل قام بتعيينه وزيراً له و وزوجه من ابنته الحسناء،‏

فعاشا معاً بسعادة و رغد، و عم السلام و الوئام في كل أرجاء المملكة .‏

...
صورة

هذا التوقــيع من تصميم الاخـت تـوتا مشكــورة

*************************

gress
قنشريني مميز
مشاركات: 345
اشترك في: الأحد يونيو 06, 2010 7:12 pm
مكان: Syria

Re: الراعي الحكيم

مشاركة بواسطة gress » الاثنين يوليو 05, 2010 7:54 am


مشكور اخ اشور على هذه القصة المعبرة بالفعل قصة رائعة بكل ما فيها
تقبل مروري :qenshrin_flower:
صورة

اذا وصلت الى القمة فلا تنسى من ساعدك في الوصول اليها ولا تنسى
ان تنظر الى السماء ليثبت الله اقدامك عليها

صورة العضو الرمزية
h.hazim
مشرف إداري
مشاركات: 1750
اشترك في: الجمعة نوفمبر 21, 2008 4:39 pm
مكان: aleppo.syria
اتصال:

Re: الراعي الحكيم

مشاركة بواسطة h.hazim » الاثنين يوليو 05, 2010 8:42 am

ashor كتب:قصة قصيرة .. الراعي الحكيم
بقلم : أحمد حسين العلي
شكرا اخ اشور بس طويلة شوي

قصة جميلة ومعزى رائع

إن الله معنا في الضيقات والشدائد
صورة

أضف رد جديد