من حياة الكاتب ......

لطرح ومناقشة كافة المواضيع الثقافية
أضف رد جديد
bahjat
قنشريني جديد
مشاركات: 21
اشترك في: الجمعة يناير 02, 2004 6:10 pm

من حياة الكاتب ......

مشاركة بواسطة bahjat » الثلاثاء مارس 16, 2004 3:02 pm

الكاتب الكبير حنا مينة
حنا مينة ابن الثمانين ربيعاً ولو لم تكن سنون عمره كلها ربيعاً ولولا ذلك الغيم والمطر ، والعذاب الإنساني
لما كان الربيع قد اخضر وأزهر في رحلة العمر التالية ، ومن ثم عاد لينسكب على البدايات ليعيدها ادباً
جميلا، إنسانيا ، عامراً بالأمل والتفاؤل ، أدباً مستمداً من نسغ الحياة وجوهرها ويصب في نهرها الخالد .
الأستاذ حنا مينة كان واحداً من اللذين أطبقت دورة العمر عددها الثمانين دون أن نعرف منهم لولا جذوة
الإبداع المتقدة التي أضاءت دربنا قبل أن تضيء دربه ، وهذا قدر المبدع أن يسلك شعاباً ودروباً وآفاقاً
نائية يشقى ليكتشف مجالها ومن ثم يسلكها الآخرون معبدة مغروسة ومزينة بالأمل .
في الحديث عن الثمانين نستذكر زهير بن أبي سلمى الشاعر العربي الجميل الذي نظن أنه أشهر دعاة
السلام على الأرض ، وأروع من صور ويلاتها وخرابها ، زهير بن أبي سلمى حكيم العصر الجاهلي
ضاق ذرعاً بهذا العمر المديد على الرغم مما قدمه وأنجزه :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يساًم .
الثمانون من عمر كاتبنا لم تحوجه إلى ترجمان بل هي رصيد إبداعي كان دونه سيرة غنية ليست ربيعاً
دائماً ، ولا وروداً ورياحين ، وإن غرست ذلك في دروبنا وعقولنا ،
في مسيرة كاتبنا الكبير ما عجز الكثيرون عن تحقيقه ، إبداع روائي ، ونقدي ، ويكفيه أنه الروائي العربي
الأول الذي أستطاع أن يعطي الرواية معناها الحقيقي وأستطاع أن يلامس آلام وآمال الناس ، وأن ينقل إلينا
بصورة واقعية واقعاً معاشاً يظنه الكثيرون أنه واقع هامشي بعيد عن عمق الحياة ، فإذا به أطراف الحياة كلها
يغني تفاصيلها ، ويرينا صورتنا التي نسيناها زمناً ، أو أسدلنا ستائر النسيان ، فإذا بنا أمام واقعنا المر الذي
لم نكن لنصل إلى بر الأمان لولاه .
ولكن كيف إلى هذا الهرم الإبداعي ؟ الروائي وحده القادر على الإجابة وإن كانت الإجابة تعني أن حياته هي
الإجابة كاملة ، ولكن ماذا لو دخلنا إلى مرفأ الذاكرة واقتطعنا منه بعضاً من الصور التي باح بها الكاتب ونشرتها
مجلة العربي (ثم عادت لتنشر في كتاب مرفأ الذاكرة ) . يقول الروائي حنا مينة ( لم أكن أتصور ، حتى في
الأربعين من عمري أنني سأصبح كاتباً معروفاً ، فقد ولدت كما هو معروف عني بالخطأ أيضاً .. والدتي اسمها
ديانا مخائيل زكور ، وقد رزقت بثلاث بنات كنا بالنسبة لذلك الزمان ثلاث مصائب ، عانت منهن الكثير الكثير ،
فالوسط الفقير إلى حد التعاسة كان يشكل عقلية سلفية بالغة القسوة ، وقد تعاون هذا الوسط ، وما فيه من ظلم ذوي
القربى على إذلال والدتي ، التي بإفهامها أنها لا تلد إلا البنات ، وكان المطلوب أن تلد المرأة الصبيان ، وفي
الأقل الأقل أن تلد صبياً بعد بنت ، لكن القدر شاء أن تحمل وتلد البنات الثلاث بالتتابع ، الأمر الذي كان يحمل إليها مراراً الشقاء بالتتابع أيضاً .
وستقول لي أمي حين أكبر : ( أسمع يا حنا ! أنت أبن الشحادة ، فقد شحدتك من السماء ، منذ تزوجت أباك ،
وفي كل مرة كنت أحمل فيها كانت السماء تعاقبني فأرزق ببنت ، أنا التي كنت أسألها الصبي ، أسألها أنت لم
تأت إلا في الحمل الرابع الذي بكيت فيه من الفرح بينما كنت قبل ذلك أبكي من الحزن لقد منحني السماء إياك
بعد طول انتظار وطول معاناة ، ولكن المنحة كانت حتى مع الشكر منحة مهددة بالأمراض والخوف عليك
منها ، ثم الدعاء إلى الله في أن تعيش كرمى لي ، حتى لا أعيش الخيبة من جديد ، وهذا ما حدث فقد ولدت
عليلاً ، ونشأت عليلآ وكان الموت والحياة يحومان حول فراشك الذي كان طراحه على حصيرة في بيت فقير
إلى حد البؤس الحقيقي ...... ) .
وبجرأة جميلة وأسلوب أكثر جمالية يبوح بما في الجعبة ، يلقي الأضواء الكاشفة على الطفولة والتشرد
والحرمان ، ولم يبني قصوراً وأوهاماً وينسج ماضياً يتناسب مع الواقع الذي وصله الآن ، لقد كان صادقاً
وواقعياً فيما عاشه وكتبه وفيما يتعامل معه يقول حنا ميتة عن والده ( كان أبي رحمه الله رحالة من طراز
خاص ، لم ينفع ولم ينتفع برحلاته كلها ، أراد الرحيل تلبية للمجهول تاركاً العائلة أغلب الأحيان ، وفي الأرياف
للخوف والظلمة والجوع ، ولطالما تساءلت وراء أي هدف كان يسعى ؟ لا جواب طبعاً أنه بوهيمي بالفطرة
وقاص بالفطرة يصنع من أي مشهد حكاية شائقة ، وقد أفدت منه في هذا المجال فقط ، كان رخواً إلى درجة
الخور أمام شيئين : الخمر والمرأة ، لم يفز بالمرأة ولم يستمتع بالخمرة .. ) .
ثمانون عاماً هي عمر في العمل والكدح والإبداع رحلة شاقة و متعبة نقرأ تفاصيلها بألف شكل ولون ، ونقول
ما أروعها وأجملها ولن ماذا تركت في أعماق الكاتب الروائي ، الطير كما يقولون _ يرقص مذبوحاً من الألم ،
وهل لنا أن نقول : يكتب المدعون وفي قلوبهم حراب وأحزان لو فاضت أكثر فأكثر لأغرقت العالم ؟ .
واليوم بعد ثمانين حولاً نتمنى ألا يكون مبدعنا الكبير قد ضاق ذرعاً بهذه الحياة فما في جعبته هو الأجمل وهو الأكثر صدقاً ، ولكن لنا أن نسأل هل عمق الحياة وثراؤها سيتكرران ، هل ستكون ذات يوم أمام روايات
بلاستيكية يكتبها روائيون بلاستيكيون لم يذوقوا طعم الحياة ولم يغادروا مكاتبهم وأحلامهم الوردية .

أضف رد جديد