الصّداقة الحقّة "المستهلكة"

يعنى بالأدب ـ الشعر ـ الخواطر ـ القصة ..الخ
أضف رد جديد
فؤاد زاديكه
قنشريني فعال
مشاركات: 143
اشترك في: الاثنين يوليو 25, 2005 7:32 pm

الصّداقة الحقّة "المستهلكة"

مشاركة بواسطة فؤاد زاديكه » الأحد أغسطس 21, 2005 2:01 pm

الصّداقةُ الحقّةُ المستهلكة




كيف يمكنُ لنا أنْ نحكم على علاقة صداقة تقومُ بيننا وبين أشخاص آخرين، أو بين شخصين في فترة ما، ثمّ ينتهي المطافُ بها إلى قطيعة دون أنْ تكون لهذه القطيعة أيّةُ دواع أو أسباب.



قد لا يصدّقُ القارئ الكريمُ هذا، لكن الذي حصل منه كثيرٌ جداً وسوف نعرض اليوم لقصة فريد وعبود هذين الصّديقين اللذين ما كانا ليخرجان إلاّ معاً وما كانا ليتحدّثان إلاّ في أمور كثيرة تخصّ مفهوم الصّداقة وما يمكن أن يكون لهذا المفهومُ "الصّداقة الحقّة" من معان، وهل بالإمكان اعتبار مفهوم الصّداقة مفهوماً مطّاطاً يخضع مدّه وجزره إلى ظروف خاصّة أو معيّنة تحرفه عن مساره الطبيعيّ؟ وهل الصّداقة الحقّة هي مفهوم نسبيّ يمكن إطلاقه على فئة معيّنة من الناس دون غيرها؟ أم هو مفهوم مطلقٌ شاملٌ جامعٌ تتحكّمُ في روحيّة تطبيقه المصالحُ لا غير وليس نوع هذه الصّداقة المفترض منها أنْ تكون بعيدة عن متناول مثل هذه التأثيرات؟



لقد وعد كلّ من فريد وعبود الآخر أنْ يظلّ وفيّاً لهذه الصداقة التي رغبا لها أنْ تكون مثاليّة، يضربُ الناس المثل بها وتتّخذ كقدوة ومثل صالح للصداقة الحقيقيّة التي تترفّعُ عن المصالح الذاتيّة وتلتزم الجانب الأخلاقيّ وهي قصّة حقيقيّة جرتْ وقائعها على أرض الواقع فكانت ابنة بارّة تعثّرتْ خطاها فيما اعترضها من عوائق لم تكن ذات اهتمام لو تمّ تدارس مفرزاتها وتجنّب ما آلتْ إليه من فشل وخيبة غير متوقّعة.



استمرّتْ هذه العلاقة على هذا النحو من الطيب والتفاهم والانسجام والثقة والمصارحة وعلى كلّ سبيل يهدفُ إلى إنجاح مسعى هذه الصّداقة لأن الانسان في عصر أهوج يخضع لابتزازات المصالح و الأنانيات - كالعصر الذي عاش فيه كلّ من فريد وعبود - كان من الضروريّ والمهمّ أنْ يتواجد شخص إلى جانب شخص آخر يعينه على تحمّل المصاعب ويشدّ من أزره في ساعة المحن ويأخذ بيده إلى ما يراه نافعاً ليضمن لهذا الشخص راحة وسعادة واطمئناناً.



كانت هذه الصّداقةُ على أفضل ما يكون في تلك الفترة وهي فترة عزوبتهما (أي قبل أن يتزوّجا) وكان كثيرٌ من الناس من أبناء تلك البلدة يحسدونهما على هذه الصداقة وعلى هذا النوع من العلاقة الذي كان فريداً في صدقه وتوافقه وانسجامه، لكنْ وللأسف لم تدمْ تلك الصداقة طويلا كما كان مؤمّلا لها، فظهرتْ في سمائها غيومُ عدم انسجام وحدثتْ في حياتهما تطوّراتٌ جديدةٌ أفسدت الكثير من جماليّة هذه العلاقة وعثّرتْ سبل نجاحها وقلّصتْ من إمكانيّة استمرارها على هذا النحو الجديد وهو خطيرٌ ينبئ بكارثة أنْ تنتهي وتذهب إلى الجحيم.



لم تستطعْ الوعودُ الكثيرةُ والجازمةُ التي كان التزم كلّ منهما - من جهته - بها منْ إنقاذها وإمكانية تعديل مسارها إلى ما كان عليه في ماضي الأيام الخوالي حينما لم تكن المرأةُ قد دخلت إلى عالمهما المجمّل بشعارات بدتْ واهية سقطتْ من جرّاء أول امتحان حقيقيّ لها، فصارتْ حياة مثقلة بأنواع غريبة من الأطوار لم تكن مألوفة لديهما من قبل. أين هي وعودُ أنْ تظلّ هذه العلاقة إلى الأبد؟ أين الإصرارُ المصرّح به في كلّ لحظة وساعة من أنّ أحداً - أيّاً كان ومهما أتى منْ سلطان - لن يقدر على إفشال تلك العلاقة والقضاء عليها؟



كان أول بنود هذا الاتفاق أو مبادئ هذه الصّداقة أنْ يأخذ كلّ منهما الآخر إشبيناً (قريباً لزواج وعماد وخطوبة) له في حال زواجه، وأنْ يتساعدا على السّراء والضّراء حتى بعد الزواج، وأنْ يقسما على الوفاء وعدم الخيانة مهما حصل معهما سواءً فقر أحدهما أم غني... مرض أم مات... وقع له مشكل أو بلغ منصباً مرموقاً في مسئولية ما والخ.



لم يكن الامتحانُ الأول يسيراً فحينما قرّر فريدٌ الخطوبة ومن ثمّ الزواج كان عبود لا يزالُ جنديّاً يقوم بتأدية خدمة العلم في الجيش العربي السوري، ممّا اضطر فريد لأنْ يدعو صبري شقيق عبود ليقوم في إكليلهما قريباً وبهذا يكونُ فريد قد وفّى بأولّ الشروط التي وضعتْ من أجل إنجاح هذه الصّداقة الحقّة، وقام بأولى الخطوات من طرفه ليتمّ الالتزام ببنود هذا الاتفاق الأدبي والأخلاقي فيما بعد من قبل صديقه عبّود.



صُدمَ فريد عندما صارحه صديقه عبّود بأن التزاماً عائلياً قديماً يوجد بين عائلة أبيه وعائلة أخرى منذ زمن بعيد، يلزمه بوجوب اتّخاذه قريباً غيره له وهولن ينكث بهذا الوعد الموجود بين العائلتين، ولهذا فهو يعلن آسفاً عن عدم تمكّنه من جعل فريد قريباً له في فرح إكليله. إنّها كانتْ مصارحة صريحة لكنّها لم تكن - باعتقاده - صائبة وهو لم يستطع هضم هذه اللقمة غير الطازجة التي قدّمها رفيقه له على طبق من الوقاحة وخيانة الالتزام الذي كان جمعهما في يوم ما، لكنّه حاول بلعها بصعوبة بالغة كي لا يكون في ذلك ضربة قاضية لمصير هذه العلاقة الذي يبدو أنه صار في مهبّ الرّيح.



حاول فريد الإبقاء على روح العلاقة بعيداً عن التأثر بهذه الانتكاسة وظلّ على عهده بهذه الصداقة وعلى وفائه لها. لكنّ الهوّة زادتْ اتّساعاً ونسيان الصداقة من قبل عبّود بدا أكثر وضوحاً خاصّة عندما توظّف في مكتب الحبوب في بلدته وصارت الرشاوى تنهالُ عليه من كلّ حدب وصوب فملأ جيبه وبطنه واستطاع أن يشتري في فترة قصيرة بيتاً جميلاً وفرشه من أحسن ما يكون وزادتْ ارتباطاته مع كثير من المسئولين وأصحاب القرار ليسهّلوا له عمليات السّرقة والنّهب المنظّم ليحصلوا(هم أيضاً) على جزء من هذه الرشاوى بشكل ما.



كادت العلاقة بينهما تقطع وصارت في مستواها أقلّ من أيّة علاقة بين شخصين عاديّين وتتطوّر الأمور على هذا النحو وتستمر المقاطعة من طرف عبّود بهذا الشكل وينسى أنّه كان يملك صديقاً في يوم ما لقد أغراه المال وسيطر عليه حبّ الجشع وكسب المزيد من هذا المال وهو لا يهمّه إنْ نسي صديقاً أو خسره فالمالُ صار الصّديق الوحيدُ له والرّغبة في جمعه بشراهة غطّتْ على جميع الأمور الأخرى لديه فغدتْ ثانوية لا قيمة لها. إنّه لأمرٌ محزنٌ ومؤسف ولكنّه حاصلٌ وكائن.



تمرّ الأيامُ محمّلة ببرد النسيان القارس ويسوق فريدَ مصيرٌ جديدٌ له يجتاز من خلاله العوالم البعيدة ويقرّر السفر في رحلة عمر جديدة يجد له ولعائلته وأولاده مسكناً آمناً ومستقبلا مضموناً فطار إلى بلد أوروبيّ في العام 1986 باحثاً له عن أرضيّة يقف عليها في هذا المجتمع الغريب والجديد يستطيعُ من خلالها أن يقف على رجليه ويثبت وجوده.

خطا خطوات حثيثة في هذا الواقع الجديد لكنّها واثقة وآمنة تمكّن من خلال ذلك أنْ ينتصب على قدميه مجتهداً ومنتزعاً اعتراف المجتمع الجديد به عضواً نشيطاً وفاعلا من خلال ممارسات نشاطات اجتماعيّة ودينيّة دلّتْ على مدى وعيه ومدى إمكانيّة تأقلمه مع هذا المجتمع الجديد وكتب له نجاح ميسور أدخل الطمأنينة إلى قلبه والشّعور بالرّضى إلى أعماق نفسه التي كانت تحتاج إلى مثل هذا النجاح لتزداد الثقةُ بالنفس أكثر وليدرك إنما هو على الطريق الصحيح التي اختارها لنفسه.



من سخريات القدر- و بعد سنوات من سفر فريد إلى إحدى الدول الغربيّة الأوروبيّة – يقرّر عبّود هو الآخر السفر إلى إحدى الدول المجاورة للدولة التي يقيمُ فيها فريد. لكنّه وعندما لم يجد فرصة للبقاء في تلك الدّولة قرّر الهروب إلى الدولة التي يقيمُ فيها صديقُه القديم فريد - وهو يعلمُ بوجوده في تلك الدولة - التي قرّر (مع عائلته) الهروب إليها بعدما تعسّرت أموره هناك وسُدّتْ في وجهه السّبل وضاق به الانتظار ولم يعد يرى أملا في مستقبل آمن أو إقامة مضمونة في تلك الدولة.



الحاجةُ لديه دفعتّه مرّة أخرى - وحسبما تعوّد عليه في حياته في استغلال الفرص واستغلال أصدقائه أيضاً من أجل مصلحته الخاصّة التي لم يستطع يوماً واحداً التخلّي عنها – ودون أيّ شعور بالخجل ممّا فعله مع صديقه فريد حينما كانا في بلدهما قبل السفر، قرّر اللجوء إليه وحيث لم ير أمامه سواه فهو لا يعرفُ أحداً هنا، في هذه الدولة التي قرّر اللجوء إليها، تلفن لصديقه بخجل وهو يعترف ضمنيّاً بكلّ أغلاطه نحوه وما عمله معه وكيف خان صداقتهما من أجل مصلحته الذاتيّة عارضاً عليه رغبته في القدوم إليه فوضعه صار بائساً وهو في حيرة شديدة من أمره لا يعرف ماذا عليه أنْ يفعل. نسي فريد كلّ إساءات عبّود وقرّر بالاتفاق مع زوجته أنْ يساعده وكمن يقول عفى الله عن الماضي فنحن أولاد اليوم وربّما يكون في هذا الموقف الجديد لعبود درساً يعي من أمور الحياة شيئاً وينبذ بعضاً مّما يعشعش في ذهنه وتفكيره من أمراض الأنانية المريضة.



ذهب فريد إلى محطّة القطار وجلب إليه ناكر صداقة الأمس وطالب حاجة اليوم إليه وهو يحاول ألاّ يشعره بشئ من هذا القبيل لكي لا يحرجه فوضع صديقه كان مأساويّاً ويثير الشفقة. جاء به إلى داره وقدّم له كلّ ما يلزم من الحمّام والطعام وظلّ في ضيافته إلى أنْ تمّ تحضير إفادته وقدّم فريدٌ لعبود كلّ ما لديه من معلومات عن اللجوء وما يدور في فلكه من معلومات يحتاج إليها القادمُ إلى بلد جديد لا يعرفُ عنه شيئاً.

لم يبخل فريد على عبود بمعلومة نافعة أو نصح أو فائدة وعرّفه على وجهاء من الكنيسة الكاثوليكيّة لهم كلمهتم ونفوذهم ليعينوه وفعلا تمّ القيام بواجبه أكثر ممّا يجب فحتّى الطعام كان يتمّ طهيه وأخذه إليه في معسكر التجمّع الذي كان نقل إليه، وكانت الزيارات إليه دائمة وغير مقطوعة في مسعى إنسانيّ من فريد لكي يقوم بواجب صديقه الذي خان صداقته وهو مرتاح الضمير.



لم تمض مدّةٌ طويلة على وضع عبود فهو حصل على اللجوء السياسي الكامل في تلك الدولة وسرعان ما نسي صديقه فريد مجدداً على الرّغم من جميع الذي صنعه معه في موضع إقامته الجديد وحيث لقي بموجب التوصية من الكنيسة الكاثوليكيّة عطف ورعاية ودعم الكنيسة الكاثوليكيّة في بلدته التي يقيمُ فيها وكان الدعم له ماديّاً ومعنويّاً ونسي أنّ الفضل في كلّ هذا يعود إلى صديقه فريد الذي أعانه ليتوفّر له ما توفّر.



ليس الموضوع في أنّ عبود نسي جميل فريد فحسب بل هو تطاول على سمعته بالكلام غير اللائق الذي كان يشكو به من حين إلى آخر لجميل شقيق فريد الذي كان يسكن قريباً من موضع سكن عبود وهو يقول أنّ فريداً فعل كذا وكذا هو يحاول أنْ يغطيّ على خيبته وفشل مسعاه في الحفاظ على أدبيّات الحياة وأخلاقيات المعشر حين داسها بحذاء مصلحته القذر، ولكي يزيح بنظر الناس عمّا فعله بحقّ تلك الصداقة من خرق وإساءة وعبث. وحين سمع فريدٌ بهذا الكلام وسأل عبوداً عن الغاية من شكواه هذه وما يقصد بها نفى نفياً قاطعاً في أنْ يكون قد قال شيئاً من مثل هذا ويبدأ الكذب والخداع يلزم جانب المصلحة الشخصية التي كان يتميّز بها عبود في علاقاته مع الناس.



كان فريد يعلم تماماً أنّه لم يفعل مع عبود غير الحسن والمليح وأنّه هو الذي قرض بغبائه وتصرفاته وأنانيته كل جميل في هذه الصداقة مروراً بالخطوة الأولى حين لم يأخذه قريباً ومن ثمّ تخليه عنه ونسيانه بعد شبعه من المال العام الذي سرقه ومن ثمّ مقاطعته والرجوع إليه لاجئاً وبعد استقرار وضعه يبدأ بالتهجّم والتحامل عليه وعضّ اليد التي امتدت إليه بالعون والمساعدة، وانتشلته من وحل الحيرة والقلق لتضعه على طريق الأمان والتوفيق.



تنصّل من كلّ التهم التي وجّهت له بخيانة الصداقة قائلا: والله يا فريد لو أن الدنيا كلّها تحدّثت عنك بسوء فإني لن أتحدّث بسوء عنك فأنت لم تفعل معي إلاّ كلّ خير وكلّ ما هو حسن، لماذا سأتكلّم عليك بالعاطل؟ وكان الواقع يحدّث عن غير ذلك، يحدّث عن خيانة الأمانة وعن الكذب وعن النفاق والأنانيّة.



ثمّ تمضي الأيام ويزوّج عبود ابنه ولا يدعو صديقه للعرس أو لا يخبره بذلك وفي أحد الأيام يموت جميل شقيق فريد فلا يعزّي عبود لا تلفونيّاً ولا بالحضور فهل هذه "صداقةٌ حقّة"؟ أم أنهّا صداقة أبو غلوة؟ تعتمد على المنفعة وما يحقق لأمثال عبود مصالحهم بغضّ النظر عن أية نتائج لهذه السلوكيّة وسأدعُ للقارئ الكريم فرصة الحكم على نوعيّة هذه الصداقة علماً أني أسميتها ما أسميتها.



قيل الصّداقةُ أمانةٌ ووفاءٌ وإخلاص، قيل الصّداقةُ نكرانُ ذات وعطاءٌ وتضحية، قيل الصّداقة كنزٌ لا يفنى، فهل يحتاج أحدُكم إلى هذا النوع من الصّداقة التي يمثّلها عبود؟ سؤالٌ يحتاج إلى كثير من التأمل والتقييم قبل اتخاذ القرار.



ألمانيا في 12/5/2005
آخر تعديل بواسطة فؤاد زاديكه في الاثنين أغسطس 22, 2005 6:14 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.

صورة العضو الرمزية
رولا
قنشريني ماسي
مشاركات: 2211
اشترك في: الأحد مايو 01, 2005 1:04 pm
مكان: كندا

مشاركة بواسطة رولا » الاثنين أغسطس 22, 2005 5:10 pm

قصة جميلة يا أخ فؤاد وانني حقيقة أجد متعة كبيرة في قراءة ما تكتب.

فؤاد زاديكه
قنشريني فعال
مشاركات: 143
اشترك في: الاثنين يوليو 25, 2005 7:32 pm

مشاركة بواسطة فؤاد زاديكه » الاثنين أغسطس 22, 2005 5:50 pm

الأخت رولا
يسعدني مرورك بقصتي وثقي أنها من الواقع الذي لم يكن بعيداً عني البتة وقد عاينت الأحداث برمتها وعايشتها واختصرت مواقف كثيرة منها كي لا تتحوّل إلى موقف تراجيدي يعكّر على القارئ الكريم متعته وبفسدها.
أشكر لك تشجيعك وإني سعيد بالعمل مع منتدانا الجميل قنشرين وأرجو أن يتمّ التواصل بيننا دائماً مرة أخرى شكراً لك.
فؤاد

أضف رد جديد